كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه السورة نازلة بقرب عهد من الهجرة فلذلك ذكر فيها الفريقان من الكفار.
ومعنى {يستمع إليك}: يحضرون مجلسك ويسمعون كلامك وما تقرأ عليهم من القرآن.
وهذه صفة من يتظاهر بالإسلام فلا يُعرضون عن سماع القرآن إعراض المشركين بمكة.
روي عن الكلبي ومقاتل: أنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلو ل ورفاعة بن الثابوت والحارث بن عَمرو وزيد بن الصلت ومالك بن الدخشم.
والاستماع: أشد السمع وأقواه. أي يستمعون باهتمام يظهرون أنهم حريصون على وَعي ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم وأنهم يُلقون إليه بالهم. وهذا من استعمال الفعل في معنى إظهاره لا في معنى حصو له.
وحق فعل استمع أن يعدّى إلى المفعول بنفسه كما في قوله: {يستمعون القرآن} [الأحقاف: 29] فإذا أريد تعلقه بالشخص المَسموع منه يقال: استمع إلى فلان كما قال هنا {ومنهم من يستمع إليك}. وكذا جاء في مواقعه كلها من القرآن.
و{حتى} في قوله: {حتى إذا خرجوا من عندك} ابتدائية و{إذَا} اسم زمان متعلق بـ {قالوا}.
والمعنى: فإذا خرجوا من عندك قالوا الخ.
والخروج: مغادرة مكان معيّن محصورًا وغير محصور. فمنه {إذ أخرجني من السجن} [يوسف: 100]. ومنه {يريد أن يخرجكم من أرضكم} [الأعراف: 110].
والخروج من عند النبي صلى الله عليه وسلم مغادرة مجلسه الذي في المسجد وهو الذي عبر عنه هنا بلفظ {عندك}.
و{مِن} لتعدية فعل {خرجوا} وليست التي تزاد مع الظروف في نحو قوله تعالى: {مِن عند الله} [البقرة: 89].
والذين أوتوا العلم: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الملازمون لمجلسه وسُمِّي منهم عبد الله بن مسعود وأبو الدرداء وابن عبّاس.
وروي عنه أنه قال: أنا منهم وسُئِلتُ فيمن سُئل.
والمعنى: أنهم يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن وما يقوله من الإرشاد وحذف مفعول {يستمعون} ليشمل ذلك.
ومعنى {آنفًا}: وقتًا قريبًا من زمن التكلم. ولم ترد هذه الكلمة إلا منصوبة على الظرفية.
قال الزجاج: هو من استَأنف الشيءَ إذا ابتدأه اهـ. يريد أنه مشتق من فعل مزيد ولم يسمع له فعل مجرد. وظاهر كلامهم أن اشتقاقه من الاسم الجامد وهو الأنفُ. أي جَارحة الشمّ وكأنهم عنوا به أنف البعير لأن الأنف أول ما يَبْدُو لراكبه فيأخذ بخطامه. فلوحظ في اسم الأنف معنى الوصف بالظهور. وكني بذلك عن القرب. وقال غيره: هو مشتق من أُنُف بضم الهمزة وضم النون يوصف به الكأس التي لم يُشرب منها من قَبل. وتُوصف به الروضة التي لم تُرْع قبلُ. كأنهم لاحَظوا فيها لازم وصف عدم الاستعمال وهو أنه جديد. أي زمن قريب. فـ: {آنفًا} زمانًا لم يبعد العهد به.
قال ابن عطية: والمفسّرون يقولون: {آنفًا} معناه: الساعة القريبة مِنا وهذا تفسيرُ المعنى اهـ.
وفي كلامه نظر لأن أهل اللغة فسروه بوقت يقرب منا.
وصيغ على زنة اسم الفاعل وليس فيه معنى اسم الفاعل. فهذا اسم غريب التصريففِ ولا يحفظ شيء من شعر العرب وقع فيه هذا اللفظ.
واتفق القراء على قراءته بصيغة فاعل وشذت رواية عن البزي عن ابن كثير أنه قرأ {آنفًا} بوزن كتف.
وقد أنكر بعض علماء القراءات نِسبتها إلى ابن كثير ولكن الشاطبي أثبتها في حرز الأماني وقد ذكرها أبو علي في الحجة.
فإذا صحت هذه الرواية عن البزّي عنه كان {آنفًا} حالًا من ضمير {من يستمع} أجري على الإفراد رعيًا للفظ {مَن}.
ومعناه: أنه يقول ذلك في حال أنه شديد الأنفة. أي التكبر إظهارًا لترفعه عن وعي ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم وينتهي الكلام عند ماذا.
وزعم أبو علي في الحجة: أن البزي توهمه مثل: حَاذر وحَذر.
ولا يظن مثل هذا بالبزي لوصحت الرواية عنه عن ابن كثير.
وسياق الكلام يدل على ذم هذا السؤال لقوله عقبه {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم} فهو سؤال يُنْبىء عن مذمة سائليه. فإن كان سؤالهم حقيقة أنبأ عن قلة وعيهم لما يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم فهم يستعيدونه من الذين علموه فلعل استعادتهم إياه لقصد أن يتدارسوه إذا خلوا مع إخوانهم ليختلقوا مغامر يهيئونها بينهم. أوأن يجيبوا من يسألهم من إخوانهم عما سمعوه في المجلس الذي كانوا فيه.
ويجوز أن يكون السؤال على غير حقيقته ناوين به الاستهزاء يُظهرون للمؤمنين اهتمامهم باستعادة ما سمعوه ويقولون لإخوانهم: إنما نحن مستهزؤون. أوأن يكون سؤالهم تعريضا بأنهم سمعوا كلامًا لا يستبين المراد منه لإدخال الشك في نفوس مَن يُحسون منهم الرغبة في حضور مجالس النبي صلى الله عليه وسلم تعريضًا لقلة جدوى حضورها.
ويجوز أن تكون الآية أشارتْ إلى حادثة خاصة ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين وأحوالهم وعَلِم الذين كانوا حاضرين منهم أنهم المعنيّون بذلك. فأرادوا أن يسألوا سؤال استطلاع هل شعر أهل العلم بأن أولئك هم المعنيّون. فيكون مفعول {يستمعون} محذوفًا للعلم به عند النبي صلى الله عليه وسلم.
{ءَانِفًا أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا}.
استئناف بياني لأن قولهم: {ماذا قال آنفًا} سؤال غريب من شأنه إثارة سؤال من يسأل عن سبب حصو له على جميع التقادير السابقة في مرادهم منه.
وجيء باسم الإشارة بعد ذكر صفاتهم تشهيرًا بهم. وجيء بالموصول وصلتيه خبرًا عن اسم الإشارة لإفادة أن هؤلاء المتميزين بهذه الصفات هم أشخاص الفريق المتقرر بين الناس أنهم فريق مطبوع على قلوبهم لأنه قد تقرر عند المسلمين أن الذين صمّموا على الكفر هم قد طبع الله على قلوبهم وأنهم متّبعون لأهوائهم. فأفادت أن هؤلاء المستمعين زمرة من ذلك الفريق. فهذا التركيب على أسلوب قوله تعالى: {أولئك هم المفلحون} في سورة البقرة (5).
والطبع على القلب: تمثيل لعدم مخالطة الهدى والرشد لعقولهم بحال الكِتاب المطبوع عليه. أو الأناء المختوم بحيث لا يصل إليه من يحأول الوصو ل إلى داخله. فمعناه أن الله خلق قلوبهم. أي عقولهم غير مدركة ومصدقة للحقائق والهدى.
وهذا الطبع متفاوت يزو ل بعضه عَن بعض أهله في مدد متفاوتة ويدوم مع بعض إلى الموت كما وقعَ. وزواله بانتهاء ما في العقل من غشاوة الضلالة وبتوجه لطف الله بمن شاء بحكمته اللطف به المسمى بالتوفيق الذي فسره الأشعرية بخلق القدرة والداعية إلى الطاعة. وبأنه ما يقع عنده صلاح العبد آخِره.
وفسر المعتزلة اللطف بإيصال المنافع إلى العبد من وجه يدق إدراكه وتمكينُه بالقدرة والالات.
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وآتاهم تَقْوَاهُمْ (17)}.
جملة معترضة بين جملة {ومنهم من يستمع إليك} [الأنعام: 25] وما فيهم عنها من قوله: {فهل ينظرون إلا الساعة} [الزخرف: 66] والواواعتراضية.
والمقصود من هذا الاعتراض: مقابلة فريق الضلالة بفريق الهداية على الأسلوب الذي أقيمت عليه هذه السورة كما تقدم في أولها.
فهذا أسلوب مستمر وإن اختلفت مواقع جمله.
والمعنى: والذين شرح الله صدرهم للإيمان فاهتدوا لطَفَ الله بهم فزادهم هدى وأرسخ الإيمان في قلوبهم ووفقهم للتقوى. فاتقوا وغالبوا أهواءهم.
وإيتاء التقوى مستعار لتيسير أسبابها إذ التقوى معنى نفساني. والإيتاء يتعدى حقيقة للذوات.
وإضافة التقوَى إلى ضمير {الذين اهتدوا} إيماء إلى أنهم عرفوا بها واختصت بهم.
{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)}.
تفريع على ما مضى من وصف أحوال الكافرين من قوله: {أفلم يسيروا في الأرض} إلى قوله: {واتبعوا أهواءهم فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ} [محمد: 10 16] الشاملة لأحوال الفريقين ففرع عليها أن كلا الفريقين ينتظرون حلو ل الساعة لينالوا جزاءهم على سوء كفرهم فضمير ينظرون مراد به الكافرون لأن الكلام تهديد ووعيد. ولأن المؤمنين ينتظرون أمورًا أخر مثل النصر والشهادة. قال تعالى: {قل هل تَربَّصُون بنا إلا إحدى الحُسْنَيْينِ} [التوبة: 52] الآية.
والنظر هنا بمعنى الأنتظار كما في قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك} [الأنعام: 158] الآية.
والاستفهام إنكار مشوب بتهكم. وهو إنكار وتهكم على غائبين. موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي لا تحسب تأخير مؤاخذتهم إفلاتًا من العقاب. فإنه مُرجَوْن إلى الساعة.
وهذا الاستفهام الإنكاري ناظر إلى قوله آنفًا {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم} [محمد: 12].
والقصر الذي أفاده الاستثناء قصر ادعائي. نُزل انتظارهم ما يأملونه من المرغوبات في الدنيا منزلة العدم لضالة أمره بعد أن نُزلوا منزلة من ينتظرون فيما ينتظرون الساعة لأنهم لتحقق حلو له عليهم جديرون بأن يكونوا من منتظريها.
و{أن تأتيهم} بدل اشتمال من الساعة.
و{بغتة} حال من الساعة قال تعالى: {لا تأتيكم إلا بغتة} [الأعراف: 187].
والبغتة: الفجأة. وهو مصدر بمعنى: المرة. والمراد به هنا الوصف. أي مباغتة لهم.
ومعنى الكلام: أن الساعة موعدهم وأن الساعة قريبة منهم. فحالهم كحال من ينتظر شيئًا فإنما يكون الأنتظار إذا اقترب موعد الشيء. هذه الاستعارة تهكمية.
والفاء من قوله: {فقد جاء أشراطها} فاء الفصيحة كالتي في قول عباس بن الأحنف:
قالوا خراسانُ أقصى ما يراد بنا ** ثم القفول فقد جئنا خراسانا

وهذه الفصيحة تفيد معنى تعليل قرب مؤاخذتهم.
والأشراط: جمع شَرَط بفتحتين. وهو: العلامة والأمارة على وجود شيء أو على وصفه.
وعلامات الساعة هي علامات كونها قريبة.
وهذا القرب يتصور بصورتين:
إحداهما أن وقت الساعة قريب قربًا نسبيًا بالنسبة إلى طو ل مدة هذا العالم ومن عليه من الخلق.
والثانية: أن ابتداء مشاهدة أحوال الساعة يحصل لكل أحد بموته فإن روحه إذا خلصت عن جسده شاهدت مصيرها مشاهدة إجمالية وبه فسر حديث أبي هريرة مرفوعًا «القبر روضة من رياض الجنة أوحفر من حفر النار» رواه الترمذي.
وهوضعيف ويفسره حديث ابن عمر مرفوعًا «إذا مات الميت عرض عليه مقعده بالغداة والعشي فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ثم يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة» ونهاية حياة المرء قريبة وإن طال العمر.
والأشراط بالنسبة للصورة الأولى: الحوادث التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تقع بين يدي الساعة. وأولها بعثته لأنه آخر الرسل وشريعته آخر الشرائع ثم ما يكون بعد ذلك. وبالنسبة للصورة الثانية أشراطها الأمراض والشيخوخة.
{أَشْرَاطُهَا فأنى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ}.
تفريع على {فقد جاء أشراطها}.
و{أنّى} اسم يدل على الحالة. ويضمّن معنى الاستفهام كثيرًا وهو هنا استفهام إنكاري. أي كيف يحصل لهم الذكرى إذا جاءتهم الساعة. والمقصود: إنكار الأنتفاع بالذكرى حينئذٍ.
و{أنَّى} مبتدأ ثان مقدم لأن الاستفهام له الصدارة.
و{ذكراهم} مبتدأ أول و{لهم} خبر عن {أنّى}. وهذا التركيب مثل قوله تعالى: {أنّى لهم الذكرى} في سورة الدخان (13). وضمير {جاءتهم} عائد إلى {الساعة}.
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وللْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)}.
فرع على جميع ما ذكر من حال المؤمنين وحال الكافرين ومن عواقب ذلك ووعده أو وعيده أن أمَر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالثبات على ما له من العلم بوحدانية الله وعلى ما هودأبه من التواضع لله بالاستغفار لذنبه ومن الحرص على نجاة المؤمنين بالاستغفار لهم لأن في ذلك العلم وذلك الدأب استمطار الخيرات له ولامته والتفريع هذا مزيد مناسبة لقوله آنفًا {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} [محمد: 11] الآية.
فالأمر في قوله: {فاعلم} كناية عن طلب العلم وهو العمل بالمعلوم. وذلك مستعمل في طلب الدوام عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم ذلك وعلمه المؤمنون. وإذا حصل العلم بذلك مرة واحدة تقرر في النفس لأن العلم لا يحتمل النقيض فليس الأمر به بعد حصو له لطلب تحصيله بل لطلب الثبات فهو على نحو قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله} [النساء: 136].
وأما الأمر في قوله: {واستغفر لذنبك} فهو لطلب تجديد ذلك إن كان قد علمه النبي صلى الله عليه وسلم من قبل وعَمِله أوهو لطلب تحصيله إن لم يكن فعَلَه من قبل.
وذكر {المؤمنات} بعد {المؤمنين} اهتمام بهن في هذا المقام وإلا فإن الغالب اكتفاء القرآن بذكر المؤمنين وشمو له للمؤمنات على طريقة التغليب للعلم بعموم تكاليف الشريعة للرجال والنساء إلا ما استثني من التكاليف.
ومن اللطائف القرآنية أن أمر هنا بالعلم قبل الأمر بالعمل في قوله: {واسغفر لذنبك}.
قال ابن عيينة لما سئل عن فضل العلم: ألم تسمع قوله حين بدأ به {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك}.
وترجم البخاري في كتاب العلم من (صحيحه) باب العلم قبل القول والعمل لقول الله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} فبدأ بالعلم.
وما يستغفر منه النبي صلى الله عليه وسلم ليس من السيئات لعصمته منها. وإنما هو استغفار من الغفلات ونحوها. وتسميته بالذنب في الآية إما مُحاكاة لما كان يُكثر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله: «اللهم اغفر لي خطيئتي» وإنما كان يقوله في مقام التواضع. وإما إطلاق لاسم الذنب على ما يفوت من الازدياد في العبادة مثل أوقات النوم والأكل. وإطلاقه على ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «إنه ليغان على قلبي وإني أستغفر الله في اليوم مائة مرة».